اللبنانيون ينزحون من «عتمة» الدولة إلى... الطاقة الشمسية




- في 2021 أنتجت الطاقة الشمسية ما يوازي مجمل الكمية التي شهدها لبنان في 10 سنوات

- بعد «غزوة» الألواح للأسطح... بيوتاتٌ صارت أشبه بـ«مستوطنات ضوء»

- قطاع الكهرباء تحوّل «ثقباً أسود» في حربِ استنزاف أرهقت اللبنانيين ورمتْهم في ظلامٍ ما بعده ظُلْم

- الانتشار العشوائي وغير المنظَّم لألواح الطاقة الشمسية يضغط للإسراع بإنجاز تنظيمٍ مؤسساتي لقطاعٍ إستراتيجي حيوي

- اتجاهٌ لاستخدام الطاقة الشمسية في المنشآت الحيوية كالمستشفيات ومضخات المياه وما شابه

... لا أزمة تعلو على «فاجعة» الكهرباء التي تُشكّل منذ أمدٍ بعيد ما يُمكن وصفه بـ«الشر المستطير»، استهلك خزينة الدولة وموازناتها ونَفَخَ الدَين العام وحرم الناس من «النور» وأغرق البلاد في ظلمة ما بعدها ظلم، وأدى إلى انكماش الاقتصاد.


كلما اجتمع اثنان من اللبنانيين كانت الكهرباء ثالثهما بسبب الكارثة المتمادية التي كهربت يومياتهم وهم يضطرون لضبط إيقاعها وتفاصيلها على وقع الشح المتعاظم لـ«كهرباء الدولة» وتَراجُع معدلات التغذية من مولّدات الأحياء. 


ورغم أن الكسوف الدائم للكهرباء وخسوفها المتوالي كان أشبه بـ «حربِ استنزاف» تصاعدت منها روائح الفضائح والفساد وسوء الإدارة لِما تحوّل «الثقب الأسود» الذي ابتلع عشرات مليارات الدولارات، فإن اعتبارها «الممر الإجباري» لأيّ إصلاحاتٍ تمنع الارتطام الكبير لا يعني بالضرورة أن الفرَج قريب، إذ ما من مؤشرات فعلية تشي بأن المُمْسِكين بهذا الملف قرروا الإفراج عن الحل المُستدام.


اللبنانيون الذين اكتووا بقلة الكهرباء وندرة نورها، ها هم اليوم يهجرون «تيار الدولة» الفاشلة ويلجأون إلى الطاقة البديلة التي تحوّلت أشبه بـ «مستوطنات ضوء» فوق السطوح، بعدما أمضوا حياتهم في «تجريب» حلول وابتكار طرق لـ «النور» من الشمعة والبطارية أيام الحرب الأهلية، إلى المولدات المنزلية وموتورات الأحياء وبينهما «الفلوريسون» والـ«يو بي أس»، وما شابه.


لم يعد خافياً على أحد أن أزمة لبنان الاقتصادية والمالية تعود بنسبة كبيرة منها إلى مشكلة الكهرباء التي أصرّت الحكومات اللبنانية المتعاقبة على استخدام الفيول لإنتاجها رغم تكلفته العالية ولم تفكر جدياً بالتحوّل إلى الطاقة البديلة التي كان يمكن أن تحل جزءاً من المشكلة وتوافر على الخزينة اللبنانية والبلد ومواطنيه الغرق في الديون والانجرار نحو واحدة من 3 أسوأ أزمة اقتصادية في العالم منذ 1850.


واليوم ومع تعاظُم الانهيار الكبير وشحّ الدولارات في مصرف لبنان وارتفاع سعر الفيول وسوء أوضاع معامل الكهرباء وشبكات النقل، غرق لبنان في الظلام فكانت مولدات الأحياء هي البديل إلى أن باتت تكلفتها لا تُحتمل بالنسبة إلى المواطن الرازح تحت أزمة سقوط الليرة، فكان الحل الذي فرض نفسه عند الخاصة والعامة وهو التوجه نحو الطاقة الشمسية لتكون بديلاً عن «كهرباء الدولة الغائبة وكهرباء المولدات الحارقة».


في البلدان المتقدمة تُعتبر الطاقة الشمسية طاقة نظيفة صديقة للبيئة وبديلاً ممتازاً عن مصادر الطاقة الأحفورية وتُشكّل جزءاً لا بأس به من مصادر إنتاج التيار الكهربائي، وتشجع الحكومات مواطنيها على استخدامها.


أما اللبنانيون فلم يكونوا بحاجة إلى تشجيع من الدولة بل إن الحاجة فرضت عليهم التوجه نحو الطاقة الشمسية للحصول على تيار كهربائي يمكنه تلبية احتياجاتهم المنزلية، فلم ينتظروا أي خطة رسمية ولا أي قوانين أو أذونات بل راحوا من تلقاء أنفسهم وفي شكل عشوائي غير منظَّم ولا مدروس يركّبون ألواح الطاقة الشمسية على سطوح منازلهم، كلٌّ وفق إمكاناته واحتياجاته، في «غزوةٍ» جرت إشاحة النظر عنها تحت وطأة تَمَدُّد «جنرال العتمة» الذي يكاد أن يستولد أحياء أو بالحدّ الأدنى أبنيةً «شمسية» مع استعارةٍ محوَّرة للمثل القائل «الشمس طالعة، الناس قاشعة».


... هل أجريت دراسات موثوقة حول ألواح الطاقة الشمسية وأثرها البيئي أو حتى مخاطرها على أصحابها؟ تصعب بالطبع الإجابة عن هذا السؤال حيث كل الحلول في لبنان تبدأ وقتية وتستبق القوانين ليصار بعدها إلى التفتيش عن أطر تنظيمية لها حين يكون الأوان قد فات وانتشرت في شكل عشوائي يصعب تنظيمه.


وقد شهد البلد المأزوم زيادةً في تركيب وإنتاج الطاقة الشمسية في العام 2021 بلغت نسبة 100 ميغاواط، وهي توازي مجمل الكمية التي شهدها لبنان في عشر سنوات بين عامي 2010 و2020 وذلك وفق المركز اللبناني لحفظ الطاقة.


وزير البيئة اللبناني ناصر ياسين الذي استصرحته «الراي» حول موضوع الأثر البيئي والمخاطر المحتملة للطاقة الشمسية شرح أنه «لجهة التلوث والانبعاثات، تُعتبر الطاقة الشمسية أفضل بكثير من الفيول وهي طاقة نظيفة صديقة للبيئة وتكلفتها أقل بكثير من تكلفة إنتاج الطاقة بواسطة الفيول أو الغاز.


وكان لبنان قد التزم انه بحلول العام 2030 سيكون 30 في المئة من إنتاج الكهرباء فيه معتمداً على مصادر الطاقة البديلة، لكن يبدو أن المواطنين اللبنانيين قد سبقوا حكومتهم واتجهوا مرغمين نحو الطاقة الشمسية، وهو أمر لابد للحكومة من تشجيعه رغم عشوائيته لا بل حض المستثمرين والسماح لهم بالاستثمار في الطاقة المتجددة. وقد كانت للبنان سابقاً تجارب ناجحة في إنتاج الطاقة من المياه بتكلفة متواضعة توافر الكثير على الخزينة اللبنانية».


لكن ما يخشاه وزير البيئة هو المخلفات التي ستنشأ عن ألواح الطاقة الشمسية التي تم تركيبها وعن البطاريات التي تُعتبر مشكلة بيئية كبرى. فهذه المخلفات قد تكون ضارة بالبيئة ولا بد من إيجاد طرق علمية مدروسة للتخلص منها، وهو ما يتم العمل عليه حالياً.


وألواح الطاقة كما البطاريات يقول ياسين ليست كلها بالجودة ذاتها «فبعضها قد يدوم لعشر سنوات فيما بعضها الآخر لا تتعدى مدة حياته ثلاث سنوات، ومن هنا يمكن أن تبدأ المشاكل بالظهور حين تصبح البطاريات كما الألواح غير صالحة للاستخدام ويجب التخلص منها».


ويؤكد ياسين أن هذه الفورة بتركيب الطاقة الشمسية تتطلب أموراً تنظيمية لإدارة هذه المخلفات في شكل لا يؤذي البيئة «ولكن تبقى الخشية من أن يتم رمي هذه المخلفات في الطبيعة لاسيما في القرى الجبلية بدل معالجتها في أماكن متخصصة، لاسيما أن البطاريات تضم مواد مثل الليثيوم والرصاص والأسيد وكلها مضرة بالبيئة، من هنا لابد من تنظيم هذه الأمور ووضع معايير واضحة منذ اليوم لاستعمال الطاقة الشمسية وطرق التخلص من مخلفاتها بشكل مستدام وعلمي. وكانت وزارة البيئة سابقاً قد عملت مع مؤسسات متخصصة ومعامل لإعادة تدوير بطاريات السيارات للحد من خطرها البيئي».


لكن بعيداً عن سعي وزير البيئة الذي يتابع بشكل حثيث وفعّال كل القضايا المتعلقة بالبيئة ثمة أكثر من سؤال يطرح نفسه: هل من رقابة على جودة ونوعية المواد المستورَدة المستخدَمة في الطاقة الشمسية؟ وهل من حملات توعية تقوم بها الجهات المختصة لشرح المخاطر البيئية للتخلص العشوائي من البطاريات والألواح؟ وألا يجب أن يخضع تركيب الطاقة الشمسية لترخيص من البلديات أو الجهات المختصة حتى تتم مراقبة الأمر والتأكد لاحقاً من مصير الألواح والبطاريات؟


حتى اليوم، يقول شوقي عطية رئيس بلدية «محرمش» البترونية لا يتطلب تركيب الطاقة الشمسية الحصول على إذن أو ترخيص من البلدية، فيما يقول وزير البيئة إنه يجري درس عملية إصدار تراخيص، كذلك تطلب وزارة الداخلية موافقة جمعية المالكين في حال وجود ملكية مشتركة للسماح لأحد المالكين بتركيب طاقة شمسية على سطح المبنى لاسيما أن المساحات المتوافرة على أسطح البنايات المكتظة قليلة ولا تسمح لجميع السكان بتركيب ألواح الطاقة الشمسية التي تحتاج أقله إلى ستة أمتار لتأمين الحاجات الدنيا لكل منزل.


هذا على المستوى الفردي، أما على الصعيد العام فثمة توجه لاستخدام الطاقة الشمسية في المنشآت الحيوية لاسيما في القرى مثلاً لمحطات ضخ المياه، معامل فرز النفايات الصغيرة أو المستشفيات أو حتى لإضاءة الطرق في المناطق الجبلية. وتشجع الحكومة هذا الأمر بحسب ما يشرح وزير البيئة وهي تسعى مع المنظمات الدولية أو مع المتبرّعين لتمويل هذه المشاريع. فالمستقبل كما يؤكد ياسين هو للطاقة البديلة «وهذه النقلة النوعية هي موضوع استراتيجي حيوي يُمكن أن يعطي الكثير للبنان».


لكن حتى اليوم مازالت الأمور بعيدة عن المرتجى ومازال تركيب الطاقة الشمسية مقتصراً على المبادرات الفردية أو البلدية في بعض الأماكن، والمشكلة التي تطرح نفسها على الصعيد البلدي هي كيف يمكن تأمين خطوط لنقل الطاقة المنتَجة نحو البيوت.


فإذا جرى نقلها عبر شبكة الكهرباء الرسمية فإنها تضيع في الشبكة لاسيما أن الإنتاج لا يمكن أن يتعدى الميغاواط الواحد فقط، ولذلك تستخدم بعض البلديات شبكة المولدات الكهربائية لنقل الطاقة المنتجة إلى البيوت وبهذا يكون المواطنون جمعوا بين طاقة المولدات والطاقة الشمسية للحصول على ما تعجز الدولة عن تأمينه لهم.


وقد كانت لبلدية بشعلة في جرود جبيل تجربة رائدة في هذا المجال حيث كانت أول قرية تعمد إلى إنشاء محطة للطاقة الشمسية وتحويلها إلى طاقة كهربائية، تُوزَّع على منازل وتُستخدم لإنارة طرق البلدة وذلك من خلال بطاقات مسبقة الدفع. علماً أن عدداً من المرشحين إلى الانتخابات النيابية وسّعوا «حِيَلهم» الجاذبة للناخبين، فلجأوا لتركيب الطاقة الشمسية على بيوتات هؤلاء علّهم يكسبون أصواتاً.


ويؤكد وزير البيئة ناصر ياسين لـ «الراي» انه «يتم العمل اليوم على تنظيمٍ مؤسساتي ووضْع قانون لإنتاج الطاقة المتجددة يسمح للقطاع الخاص والمستثمرين بإنتاج الطاقة البديلة ويتيح المجال لإنتاج حتى 10 ميغاواط من الطاقة وإدخالها إلى الشبكة».


ولكن حتى إقرار هذا القانون فإن الحكومة بكل وزاراتها تشجع الانتقال إلى الطاقة البديلة، ويبدو أن الظروف القاهرة قد كوّنت وعياً لدى الناس لم يكن موجوداً حول أهمية هذه الطاقة ودفعتهم لاعتماد سلوك إيجابي نحوها خصوصاً أنها قادرة أن توفّر عليهم التكلفة الخيالية التي يدفعونها اليوم للحصول على الطاقة الكهربائية من المولدات، كما أنها قادرة مستقبلاً متى أقرّ القانون الذي يتيح الاستثمار بالطاقة المتجددة أن تؤمن كمية كبيرة من الطاقة قد تصل إلى حدود 800 ميغاواط بحسب التقديرات وتحل جزءاً كبيراً من مشكلة الكهرباء أمّ المشاكل في لبنان.




Post a Comment

أحدث أقدم